أكتب هذه المقالة من جنوب بلادي الممطر جداً هذه الأيام. كان شعوراً غريباً حينما استيقظت هذا الصباح على صوت المطر ورائحته. في الغرب، عشت في مدن كثيرة تمطر كثيراً. لم يعد المطر في تلك المدن يطربني. كان لمطر الجنوب، هذا الصباح، رائحة خاصة وفرح مختلف. لعله ذلك الحنين الطفولي للقرية البريئة التي كانت تحتفل بالمطر في العلن. ترقص له ومعه. سمعت، هذا اليوم، ومن زاوية منطفئة من ذاكرة الطفولة، أصواتنا البعيدة في القرية تستقبل المطر في احتفالية بريئة:
جانا الحيا جانا... ورش معزانا.
كانت القرية كلها صدى لنشيدنا الطفولي. وكنا نغرق في المطر ونسابق مقدمة السيول إلى المزارع والأودية. ثم يمتد الاحتفاء بالمطر في دوائر صغيرة حول "شبة النار" في المجالس العلوية من بيوتنا الطينية. كان المطر يروي عطشنا للحياة. كان يبللنا بروح متفائلة لغد أفضل.
أستيقظ هذا الصباح على حس المطر وكأنني قد نمت لعشرين سنة. كأنني للتو أستيقظ. يا إلهي: ما الذي حل بالجنوب في هذا الغياب الطويل؟
حديثاً, تنقلت كثيراً بين قرى ومدن كثيرة في الجنوب، من أبها إلى سراة عبيدة ومن خميس مشيط إلى السودة، إلى فيفا. منذ سنين طويلة وأنا أبحث عن فرصة خاصة لإعادة اكتشاف منطقة نشأت فيها وتعلمت فيها كيف أفك أولى حروف المعرفة. كأنه حلم جميل أن تقضي وقتاً قصيراً في مكان شكل هويتك... رسمك... أسس فيك هذا الشعور القاسي بـ"الغربة" حتى وإن عدت إلى موطن الطفولة وذاكرة البراءة الأولى. نسافر إلى كل الأمكنة إلا إلى ذواتنا التي تشكلت في الأمكنة القديمة... نكتشف عوالم مثيرة في البعيد. كأننا نهرب عن المكان القديم. نعيد اكتشاف أنفسنا في الاغتراب الطويل ولا نحاول أن نكتشف أنفسنا، من جديد، في مكان ما زال يشكل هويتنا وانتماءنا وعذاباتنا. كأن لا شيء يذكرنا بذاكرتنا الحقيقية سوى بقايا الشوك القديم في أقدامنا ولعنة الفقر في طفولتنا ودموع الحرمان التي ما تزال "غصة" في حلوقنا كلما حاولنا العودة إلى الوطن القديم. ولكن لماذا ألوم الجنوب على فقر الطفولة ومرارة بعض فصولها؟
أعود هذه المرة إلى الجنوب حاملاً معي أسئلة جديدة صاغتها تجارب الرحلة الطويلة في البعيد. كل الأشياء بدت وكأنها غريبة. بحثت عن براءة القرية القديمة، عن بيوتها الطينية، عن تراحيب الجبل وعرضة رجال القرية و"خطوة" شبابها وأناشيد المطر وفرحة عودة "الطارش" من السفر الطويل. لم أجد شيئاً هناك سوى بعض من ذكريات الطفولة. زرت بيتنا الطيني القديم حيث ذاكرة الطفولة ورائحة الأحلام التي حملت راعي الغنم الصغير من اغتراب إلى اغتراب، من بحث عن الآخر إلى بحث عن الذات، من الضيق بحياة الجبل إلى فضاء واسع من البحث عما يختبئ في البعيد. أصل إلى البعيد فأبدأ في رحلة بحث جديدة عن بعيد آخر. أهرب من اغتراب قاس في أقصى الشمال فأعود إلى اغتراب أشد قسوة في الجنوب.
في الجنوب هذه المرة، غابت حميمية المكان القديم. أدور وحيداً في القرية، أرى الحجر القديم وبقايا ذاكرة الطفولة بكل براءتها وعذاباتها. رأيت شجرة الطلح العتيقة التي شهدت بداية ونهاية أجيال كثيرة في قريتنا القديمة. لكنها بدت هذه المرة بلا روح، بلا لون، وكأنها تعبر عن وحدة قاسية أو غربة مملة. أسأل الأصدقاء الأولين عما حدث في الغياب، وقد تباعدت بنا السنون وتغيرت الأفكار وكأننا نتحدث لغات مختلفة، وكان الأصدقاء يعزونني بما تبقى لهم من مفردات القرية القديمة: "سقاك الحيا". لم يعد المكان هو المكان. شابت كل الوجوه التي حاولت الذاكرة استعادة شكلها القديم. مات كثير من الناس الطيبون، رجالاً ونساءً، ممن ربتنا القرية على أن نعاملهم جميعاً كما لو كانوا آباءً لنا وأمهات. غاب حضور المرأة القوي في كيان المجتمع الجنوبي وتحول أحياناً إلى "كابوس" يقلق "رجولة" الجنوب بفعل هجمة أشرطة "الصحوة" والفكر المستورد الذي شوه إنسانية المرأة وأعدم ثقة الرجل في عاداته وتقاليده وطمس ثقافة الجبل وبراءة القرية.
أزور بعض القرى في الجنوب فأحزن وللحزن في الجنوب أوجه حزينة. أحاديث المجالس القديمة تغيرت. غابت الطرفة والنكتة والسواليف المعبرة وحكايات المزرعة والمرعى. كان الكبار يتحدثون عن شؤون وشجون القرية، لا يحتكر الحديث أحد. رأيت بعض المراهقين يصر على إثارة التجهم والكآبة في المجالس بإصراره على أن يكون المتحدث الوحيد في مجالس عامرة بقليل من الأحياء من آبائنا... ذاكرتنا. كانت مجالس القرية عامرة برائحة الحياة، بالهموم الحقيقية للناس، وأصبحت الآن غيمة أحزان وكآبة وجهالة. موجة التصنيف البليد طالت مجالس القرى وباتت الأوصاف الظالمة تطلق على كل من يعترض على كآبة "سواليف" المجالس ومواعظها.
أي انتكاسة هذه التي تعيشها مجالس الجنوب في زمن "الجامعات" و"ثورة المعلومات" وحقائق العولمة؟
أسفت لرؤية حفنة من المراهقين يرددون كلاماً إنشائياً يؤصل الجهل في مجالس القرية ومناسبات الفرح فيها. كان منظر الآباء في المجالس، وهم يحاولون تغيير المواضيع المملة إلى قضايا تمس حياتهم وشؤونهم، محزناً وكان الوجوم الباهت على وجوه الحاضرين - ممن سيطر الرعب على قلوبهم خوفاً من "إرهاب المجالس" - يعكس وضع المجتمع إجمالاً بعد أن تلبسه الخوف والجهل والكآبة. صار في كل قرية مفت خاص يعلن حرمة الغناء البريء في مناسبات الزواج، ويشهر تصنيفاته ضد كل من يحاول التنبيه إلى خطر فكر التكفير أو يحاول تنبيه الجيل الجديد إلى حقائق الزمن الراهن وتحديات المستقبل وإمكاناته. يهرب كثير من أبناء القرى في الجنوب إلى استراحات خاصة لمشاهدة الفضائيات العربية - سراً - بعد أن كفر مشاهدتها مفتو القرى الجدد ممن يتسابقون على إصدار فتاوى التكفير ضد من يجرؤ على السؤال وضد كل فكر جديد. سألت أحدهم وقد اضطر إلى مشاهدة الفضائيات الإخبارية سراً: وما الذي يجبرك على الخضوع لهيمنتهم وفكرهم؟ قال: لأنهم استخدموا حتى المساجد للتشهير بكل من يجرؤ على مناقشة أفكارهم. أي غزو فكري هذا الذي يقتل براءة القرية وتاريخها وطيبة أهلها الأولين؟
أسأل الأصدقاء في الوسط الثقافي في عسير عن أي بحث أكاديمي أو دراسة علمية تبحث في قضايا المجتمع الجنوبي الجديد أو تقدم رؤية مستقبلية حول تطور المجتمع ومستقبله ويكون الجواب عادة نظرات من الحيرة أو الاستغراب لهذا السؤال. أكرر السؤال القديم على الزملاء في الجنوب: لماذا الولع العجيب بدراسات التاريخ القديم وتحقيق المخطوطات القديمة وهموم الراهن وإشكالاته تغطي المجتمع كله إلى أذنيه؟ لماذا - مثلاً- لا تركز إحدى كليات جامعة الملك خالد على دراسة تأثير البطالة على المجتمع في الجنوب؟ هل قرأت - على سبيل المثال - عن أي دراسة علمية تدرس آثار الهجرة الجنوبية للعمل في شركة أرامكو على مجتمع الجنوب؟ أو قرأت شيئاً عن أسباب حوادث المرور المفجعة في الجنوب غير تلك الطروحات النمطية التي تلقي باللوم كله على طرق الموت - وهي ليست بريئة - وتتجاهل العوامل النفسية والاجتماعية والقبلية لآلاف من الشباب الجديد في الجنوب ممن يعتبر القيادة بشكل جنوني كما لو كانت ضرباً من البطولة أو الفروسية في غياب البدائل المناسبة لاستثمار وقت الفراغ وطاقة الشباب فيما يفيد؟ هل حاول أي باحث أن يكتب بتجرد وجرأة عن جذور التطرف الفكري في الجنوب؟ أو سأل: من يقف وراء هذا الفكر الغريب على ثقافة القرية وتاريخها؟ هل إن التاريخ القريب يعيد نفسه في الجنوب يوم جاء جهيمان، وقلة من فرقته، يجمع "حطباً" بشرياً لمشروعه المجنون في الحرم المكي؟ أو: هل يراهن أصحاب المشاريع السياسية في كهوفهم وأقبيتهم على شباب القرى في الجنوب ليكونوا وقوداً لطموحات سياسية مجنونة ثم ينثرون رماد أولئك الشباب في عيون الأحياء في تهامة وجبال السراة؟
أعود إلى الجنوب هذه المرة و كأنها المرة الأولى التي أعود فيها إلى ذاكرتي القديمة التي لم تمحها سنوات الترحال والاكتشاف المثير. هذه المرة فتحت عيني على قليل من حقائق التغير الكبير في الجنوب: أعداد الناس في ازدياد مهول. الطرق القديمة تزدحم بآلاف السيارات ما بين سراة عبيدة وخميس مشيط، أبها والخميس، أبها ومحايل. خيرة العقول في الجنوب تهرب إلى مدن أخرى أو تفكر في الرحيل. الناس تخشى ندرة المياه واندثار الأراضي الزراعية بفعل تجار العقار الذين باعوا حتى الجبال على أهلها الأولين. الناس تتذمر من سوء الخدمات الصحية وبطء مشاريع الطرق وضيق أفق المستقبل أمام أبنائهم وبناتهم في الجامعات والوظائف والتجارة. كيف ستجد الأجيال القادمة جامعات أو كليات ومعاهد عسكرية في الرياض أو في الغربية أو الشرقية تستوعب حماسها وطموحها وحقها في مستقبل آمن وحياة كريمة؟
أحزنني هذا الشعور الحاد بـ"الغبن" وبعض شباب الجنوب يعبر عن يأسه في مشاركة حقيقية وحضور فاعل في الإدارة الوطنية العليا. كيف لا يسهل على فكر التطرف أن ينتشر في مناخ يسوده اليأس والإحساس بالغربة حتى في الوطن؟
حينما تصبح "القدوة" في عقول آلاف الشباب المتطلع إلى حقه الوطني في مشاركة فاعلة هي - فقط - رموز التطرف والجهل والإرهاب في مخابئها وأوكارها فليس أمامنا سوى قرع أجراس الخطر من شر فتنة قد تحرق كل ما أنجزه الآباء والأجداد من أجل بناء وحدة حقيقية تلم شملنا جميعًا في وطن يتسع للجميع ويمنح الطاقات الحقيقية، من كل شبر من وطني، فرصة حقيقية للمشاركة والفعل.
أفتح النافذة من جديد. أمد يدي نحو المطر الغزير. وبصوت حزين، كأنه نشيج، بدأت أردد:
جانا الحيا جانا... ورش معزانا!
سليمان الهتلان
كاتب سعودي وباحث في جامعة هارفارد